السرية المصرفية على كف… الضغوط!
تتعرض السرية المصرفية في العالم لأشرس الحملات واقسى الاجراءات التي تضعها بين خيارين احلاهما مر: اما التكيف مع المستجدات، واما التخلي عن السرية المصرفية بما تجره من هجرة اموال وشح سيولة وضعف ثقة.
اتيحت للدول الغنية والناشئة في مجموعة العشرين الفرصة في واشنطن خلال اجتماع وزراء مالية المجموعة لرفع الجزء الاكبر من السرية المصرفية اذا ما قبلت ممارسة سلسلة من الاجراءات على المستوى العالمي من شأنها دعم مكافحة التهرب الضريبي بشكل صارم. وقد لوحظ ان العديد من الدول ايدت هذا التوجه، ولا سيما منها فرنسا والولايات المتحدة ودول اوروبية اخرى، لكن ما زال يقتضي اقناع باقي دول مجموعة العشرين بضرورة جعل التبادل الآلي للمعلومات الضريبية المعيار الدولي الجديد في هذا المجال.
تبادل غير كاف
وتحرص فرنسا والولايات المتحدة بصورة خاصة على التقدم في مجال التبادل الآلي للمعلومات، الذي تعتبره الدول الداعمة لخيار رفع السرية المصرفية الوسيلة الوحيدة لمكافحة التهرب الضريبي بشكل فعال، علماً بأن هذه المبادلات تتم حالياً «تحت الطلب»، وفقط جواباً على تحقيق رسمي ومفصل، الذي يجعله غير كاف بالنسبة الى بعض الدول والمنظمات المدنية المنخرطة في الحرب على الجنات الضريبية التي تقدمت على المسرح لحساب «اكتشافات الاوفشور»، مع الاشارة الى ان اكتشافات التوظفيات الاوفشور تزايدت في الاسابيع الاخيرة بمبادرة من «المجموعة الدولية للصحافيين الاستقصائيين»، وهي تنظيم خاص في واشنطن يحتفظ بـ 2،5 مليون بطاقة سرية حول الجنات الضريبية.
ويعتبر وزير المال الفرنسي بيار موسكوفيسي على هامش اجتماع الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين «ان الباب فتح نحو انهاء السرية المصرفية، وهو لم يشق فقط بل فتح على مصراعيه، وهذا امر بالغ الاهمية».
كما ان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كانت قد رفعت الى اجتماع وزراء مال مجموعة العشرين تقريراً تطلب فيه تحويل مبادرة التبادل الآلي للمعلومات الى «معيار دولي موحد جديد» من اجل تحسين الشفافية المالية.
لكن المطلوب الآن، بحسب الوزير الفرنسي «ان تجد هذه الافكار المتقدمة ترجمتها على المستوى الدولي». وتشير منظمة الشفافية الدولية من جهتها في رسالة موجهة الى وزراء المال: «ان السنة الحالية شهدت اتخاذ سلسلة من الاجراءات على المستوى الاوروبي. وعلى مجموعة العشرين بكاملها المحافظة على هذه الوثبة لمصلحة الاصلاح المالي العالمي».
سويسرا تقاوم
في الوقت الذي القى حلفاء سويسرا الثلاثة على صعيد السرية المصرفية السلاح، التزمت برن الصمود، وتمسكت باستراتيجيتها، رافضة رفع سريتها المصرفية. وتقول وزيرة المال السويسرية السيدة ايفلين ويدمر – شلومبف «ان هناك صيغاً عديدة لمكافحة التهرب الضريبي». واضافت «ان سويسرا ستستمر في استراتيجية المال النظيف التي بدأتها في كانون الاول (ديسمبر) الماضي. وتفرض هذه الاستراتيجية على البنوك السويسرية عدم استقبال سوى الاموال المصرح عنها مستقبلاً، والضغط على الزبائن من اجل تنظيم وضبط اموالهم المودعة. وفي مقابل ذلك، لا يكشف عن هوية الزبون.
يضاف الى ذلك ان سويسر قبلت في العام 2009 قواعد منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بشأن التعاون القضائي في المسائل الضريببة، الامر الذي يسهل نقل المعطيات في هذه الحال.
وكان لسويسرا ثلاثة حلفاء في استراتيجيتها هي: لوكسمبورغ، النمسا وليختنشتاين. فمنذ بضعة ايام اعلنت لوكسمبورغ تخليها عن السرية المصرفية ابتداء من العام 2015، والنمسا في صدد الموافقة على الالغاء. اما امير ليختنشتاين، هانس – آدم فاعلن منذ اسبوعين ان تبني نظام تبادل المعلومات الآلي يعني رفعاً للسرية المصرفية وبالنسبة الى رئيس الكونفدرالية السويسرية اولي مورر، فان سويسرا قدمت تنازلات، وغير مستعدة للذهاب الى ابعد من ذلك تحت ضغط خارجي، الا اذا كان الشعب السويسري قد طلب ذلك.
وفي حديث صحافي نشرته صحيفة «صباح الاحد» ذكّر مورر بقانون الامتثال الضريبي الاميركي (فاتكا)، الذي وقعته بلاده مع الولايات المتحدة، و«الذي يفضي الى رفع السرية المصرفية عن الزبائن الاميركيين في المصارف السويسرية».
واضاف «ان السرية المصرفية لم تعد لها الاهمية التي كانت عليها قبل سنتين او ثلاث سنوات. غير ان عامل القوة ايضاً في المركز المالي مرتبط باستقرار سويسرا السياسي، وصدقيتها والثقة بها».
المنفيون الضريبيون
معلوم ان سويسرا ليست جزءاً من الاتحاد الاوروبي، وبالتالي ليست خاضعة لانظمته على حد قول باتريك اودييه، رئيس جمعية المصرفيين السويسريين. فسويسرا، يضيف، هي فريق ثالث، ولا يمكن ان تفرض عليها مثل هذه الاجراءات. وليس هناك حالياً اي مفاوضات مع الاتحاد الاوروبي حول هذا الحل. وليس ثمة دولة حتى الآن تقدمت بمثل هذا الطلب من سويسرا.
وبحسب اودييه، فان المصارف السويسرية تعتبر دائماً ان التبادل الآلي للمعلومات المطبق في الاتحاد الاوروبي كمعيار ليس هو افضل حل لمكافحة التهرب الضريبي في الظروف الراهنة.
وعبّر اودييه عن اسفه لكون فرنسا لم تعرض اي شيء لمصلحة المنفيين الضريبيين الذين يرغبون في اعادة اموالهم الى الوطن. هذه الاموال التي تفرض عليها رسوم تبلغ 60٪. وقال: «ان فرنسا استثناء بين الدول الاوروبية، حيث يلجأ رعايا الاكزاغون الى اختيار مراكز مالية اقل شهرة من سويسرا لحماية انفسهم.
وتجدر الاشارة الى ان بريطانيا والنمسا وقعتا اتفاقاً مع سويسرا من اجل فرض الضرائب على الاموال غير المصرح عنها. والمانيا بدورها وقعت الاتفاق، لكنه لم يصادق عليه في مجلس النواب، بسبب وجود آلية في المانيا لتنظيم الاموال. وهناك دول اوروبية اخرى تبنت سياسة «العفو الضريبي»، كاسبانيا وايطاليا والبرتغال وبلجيكا.
والواقع ان مسألة التهرب الضريبي طغت على سطح القضايا الاوروبية منذ انفجار عملية «كاهوزاك» منذ اسابيع قليلة، حيث اعترف وزير الخزانة الفرنسي، جيروم كاهوزاك، امام الرأي العام بوجود حساب له غير مصرح عنه في سويسرا تبلغ قيمته 600 الف يورو، وقد جرى تحويله الى سنغافورة واستقال من منصبه.
وتأثراً بالضغوط الفرنسية، وضع الوزراء الاوروبيون مكافحة التهرب الضريبي في رأس سلم اولوياتهم، على ان تلقى هذه الاولوية الاهتمام الذي تستحقه في القمة الاوروبية المقبلة في الثاني والعشرين من ايار (مايو) الحالي.
لبنان يتكيف
يلاحظ ان لبنان، الذي عرف بسريته المصرفية التي كانت مصدر تطور ونجاح قطاعه المصرفي، اختار التكيف مع الضغوط الدولية، او بالاصح القوانين الدولية من خلال التجاوب المحدد مع مكافحة تبييض الاموال مثلاً، ومع مكافحة تمويل الارهاب، ومع قانون الامتثال الضريبي الاميركي المعروف باسم “FATCA“ من دون ان يتخلى عن رهانه القديم الذي شكل له «مزراب ذهب» فعلياً. وهذا ما توافق عليه مصرف لبنان وجمعية المصارف وحتى السلطات اللبنانية، انطلاقاً من قناعة مؤداها التضحية بالجزء افضل من المغامرة بالكل وانعكاساته المالية والاقتصادية.