«قصة ثواني»… بيروت بلا ورقة التين»
بعدما افتتح به مهرجان بيروت السينمائي الدولي دورته الـ 12 في تشرين الاول (اكتوبر) الماضي، وبعدما جال على مهرجانات عربية واوروبية عدة وقطف الجوائز العديدة، «قصة ثواني»، الشريط الروائي الأول للمخرجة لارا سابا والمنتجة وكاتبة السيناريو نيبال عرقجي، حالياً في الصالات اللبنانية.
«قصة ثواني» شريط ينزع عن مدينة بيروت ورقة التين لتظهر عري تناقضاتها الاجتماعية في مجتمع يموت احدهم فيه من الجوع والعوز والمرض بينما يهنأ جاره بالترف والسعادة والثراء اللامحدود. مجتمع يتعرى فيه احدهم حتى لا ينام في العراء ويعيش آخر فيه تحت سقف صفائح حديدية، بينما جاره ينام على ريش نعام في فيلا مطلة على البحر. مجتمع يدفع احدهم فيه الغالي والنفيس لينجب طفلاً، وجاره يبيع جسده وجسد فلذة كبده وطفله الغالي من اجل حفنة دراهم وشمة مخدرات وزجاجة كحول. ولكن كل تلك التناقضات الاجتماعية قد تجتمع في مكان واحد وزمان واحد لمدة ثوان قليلة ستكون أكثر من كافية لقلب حياة الغني والفقير على حد سواء، فلا أحد اكبر أو اصغر من المصيبة.
تقاطع في مأساة
على ثلاثة خطوط سردية يقوم الشريط في تركيبة تشبه كثيراً الشريط الشهير Babel الذي قدمه المخرج المكسيكي الشهير اليخاندرو غونزالس اينياريتو عام 2006 مع براد بيت وكايت بلانشيت. ثلاثة خطوط سردية لثلاث شخصيات مختلفة بوضعها الاجتماعي، لا عامل مشتركاً يجمع بينها سوى انها كلها تعيش في بيروت، ورغم ذلك فإن مصائرها ستتقاطع في ثانية واحدة وفي مأساة واحدة هي حادث سير بين سيارتين على كورنيش بيروت ليلاً. الخط السردي الأول سيعرفنا الى نور (غيدا نوري) الشابة الجامعية التي ستفقد والديها في ذلك الحادث، فتتغيّر حياتها بشكل جذري، خصوصاً انها ابنة طبقة متوسطة تناضل للاستمرار وتثقل كاهلها بقروض مصرفية للسكن والتعلم. قروض قد تتبخر معها الاحلام والممتلكات ما إن يتوقف الدفع. نور التي خسرت والديها ستناضل حتى لا تخسر مستقبلها المتمثل بالشهادة الجامعية وأمانها المتمثل بالبيت الذي يأويها والحنان المتمثل بجدتها المريضة (ليلى حكيم). وعندما تقفل كل الابواب في وجه من يوشك على الغرق، تصبح قشة بيع الجسد هي الحل الوحيد. الخط السردي الثاني ينقلنا الى احد احياء بيروت الفقيرة جداً حيث يعيش الصبي مروان (علاء حمود) مع والدته المدمنة على الكحول، حياة بؤس وانحدار معيشي رهيب سيحوّل الام وحشاً بلا أخلاق. هي لا تكتفي ببيع جسدها بل ترمي ولدها ابن الثانية عشرة براءة لزبائنها حتى يغتصبونه ويتركون لها المال بالمقابل لشراء الكحول. ورغم ذكاء مروان فانه سيضطر للهرب من مأساته وهجر بيته ومدرسته والانحراف مع رفقة السوء حيث الجميع يتعاطون المخدرات والسرقة.
ايضاً للأثرياء مأساتهم، فالخط السردي الثالث سيحملنا الى داخل منزل فخم جداً ومطل على بحر بيروت، يسكنه الزوجان انديا (كارول الحاج) ومالك (شربل زيادة) اللذان يملكان كل شيء ما عدا طفل. انديا التي تعمل رغم ثرائها في مدرسة رسمية حيث يدرس مروان، بدأت تفقد الامل بانجاب طفل يكمّل سعادتها مع زوجها. ولكن القدر سيمنحها فرحة لن تكتمل، فما ان تعلم انها حامل لأول مرة حتى تتعرض للسرقة من قبل مروان الذي سيدفعها على الارض ويسلبها حقيبتها. ثانية واحدة كانت كافية لتنتقل الى المستشفى وتتصل بزوجها الذي سيترك اجتماعه وينطلق كالمجنون بسيارته باتجاه كورنيش بيروت ليلاً، حيث كانت تمر في الثانية نفسها سيارة والدي نور…
آفات، محرمات وبازل
مع فيلم «قصة ثواني» سنتعرف الى قضايا وآفات اجتماعية يعانيها المجتمع اللبناني، مثل المخدرات والدعارة والفقر، وبعضها يعتبر من المحرمات مثل التحرش الجنسي بالاطفال. هذه الآفات سنتابعها من خلال قصص ثلاث شخصيات في بيروت، تتقاطع أقدارها من دون أن تعرف اي منها الأخرى، وتؤثر قرارات كل منها، من حيث لا تدري، في حياة الشخصيات الأخرى. حتماً بيروت حاضرة بقوة في الشريط لأنها حسب رأي المخرجة لارا سابا «مدينة كل الاقاصي. فيها اقصى الفقر واقصى الثراء. فيها أقصى درجات الثقافة وأدناها في وقت واحد. فيها من كل شيء حده الأقصى. إنها مدينة مليئة بالتناقضات، تتسم الحياة فيها بالانفصام».
وأيضاً للقدرية والمصادفة حصة الاسد في الشريط حسب رأي كاتبة السيناريو والمنتجة نيبال عرقجي التي قالت أن «الفيلم عن القدر وكيف ان قراراً يمكن ان يغيّر ليس فقط مجرى حياة الشخص الذي يتخذه، بل حياة غيره والمحيطين به كذلك الامر». في اية حال ولدت فكرة الفيلم من تساؤلات كانت عرقجي تطرحها دائماً على نفسها ومنها: «هل ولد قدرنا معنا ام انه قابل للتغيير»؟
وفي اية حال فإن التغيير صفة تليق بشريط «قصة ثواني» لأنه يتميّز بتركيبته التي وإن كانت رائجة في السينما العالمية، إلا أنها تستعمل لاول مرة ربما في فيلم لبناني، وبشكل ناجح ومقنع مما منح الفيلم نفساً مختلفاً عن السائد، فيه ترقب بانتظار اكتمال الصورة المركبة تباعاً كقطع البازل. الفيلم ايضاً لافت بصورته الجميلة التي تعكس اناقة الطبقات الراقية المتمثلة بالمنزل الفخم والمطاعم الراقية والازياء الساحرة التي ترتديها كارول الحاج، في مقابل فقر الطبقات المعدمة المتمثلة بأحياء شعبية وبيوت وسخة وملابس رثة.
مروان من نراجيل برج حمود
الى مهرجان بروكسيل
أما لجهة التمثيل فقد توفقت لارا سابا بالفتى علاء حمّود في دور مروان لأن اداءه كان ممتازاً وطبيعياَ وقد فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في المهرجان الدولي للسينما المستقلة في بروكسيل.
وكانت سابا قد بحثت طويلاً عن ولد لاداء دور مروان، من دون أن توفّق، إلى أن كانت ذات مرة، هي ونيبال عرقجي في برج حمود، تبحثان عن موقع للتصوير. عندها شاهدتا فتى يعمل في محل للنراجيل، ويتولى توصيل الطلبات، فتحدثتا معه. كانت ثمة ملامح في وجهه تبحث عنها سابا، فهو لا يزال طفلاً وفي الوقت نفسه لديه شيء يدل على المعاناة، وكان قد ترك المدرسة قبل اشهر. وجدت سابا في ملامحه تفاصيل تعطي بعداً واقعياً للشخصية، وهو مطابق للمعايير التي وضعتها، إذ كانت تريد ولداً غير محطّم بالكامل، بل فيه جانب سليم وشيء من الطفولة. وفي المرة الثانية، اخذت سابا معها الكاميرا وصورته يتحدث امامها، وامام الكاميرا فوجدت ان لديه هذه العفوية الجميلة. وبعد أن وافق أهله على مشاركته في الفيلم، لم تضطر المخرجة لتدريبه على التمثيل، إذ فضلت ان يكون على طبيعته وعفويته.
أما كارول الحاج فقدمت بنعومة شخصية إنديا المرأة التي تحلم بالامومة، وقبل ان يتحقق… يتلاشى حلمها. دور واقعي وحقيقي، بسيط وبعيد عن الفلسفة، إنما يمتاز بعمق نفسي من ناحية اخرى. بدوره شادي حداد بدا مقنعاً بشخصية الدكتور كريم حيث جسد دور القدر الذي يقلب حياة الانسان رأساً على عقب. ويقول شادي: «إنني الحلقة والعقدة اللتين تربطان كل الشخصيات والقصص المتداخلة». أما غيدا نوري فقدمت شخصية «نور» وقد نجحت في إبراز مدى الأسى الذي تتعرض له الفتيات في مجتمعنا الشرقي. أيضاً تشارك الممثلة القديرة ليلى حكيم بدور صامت في «قصة ثواني»، وقد عكست حكيم صورة المسن الذي يكون عاجزاً عن تولي امور حياته بنفسه ويتحول عبئاً على الآخرين. ويشارك ايضاً في الفيلم ضيوف شرف مثل المخرج بهيج حجيج وماريو باسيل وطوني أبو جودة ومقدّم البرامج بوب أبو جودة.
يبقى ان نشير الى أن «قصة ثواني» عرض في افتتاح المهرجان الدولي للسينما المستقلة في بروكسيل من 6 الى 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وشارك كذلك في الدورة العشرين من مهرجان «بلاس كاميريماج» Plus Camerimage السينمائي الدولي في بولندا بين 24 تشرين الثاني (نوفمبر) والأول من كانون الاول (ديسمبر) 2012. وقد أدرج في مسابقة الأفلام الروائية الأولى لمخرجيها، علماً بأن لجنة التحكيم في هذه الفئة كانت برئاسة المخرج الأميركي روجر سبوتيسوود
مايا مخايل