وجيه نحله… مسيرة طويلة من الوطن الصغير الى العالم الكبير
كثيرون أتوا الى «قصر اليونسكو» في بيروت، من كل حدب وصوب أتوا، ومن مختلف فئات الشعب اللبناني… للمشاركة في الاحتفال الكبير الذي نظّمه «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الاميركية، بمناسبة بلوغ الفنان التشكيلي العالمي وجيه نحله العقد الثامن من عمره، ولمشاهدة المعرض الاستعادي الشامل الذي يختصر 60 سنة من نتاجه الجمالي المبدع.
بدأ الاحتفال، بندوة حوارية في الصالة الكبرى من «قصر اليونسكو» في بيروت، تناولت مسيرة وجيه نحله واعماله الفنية، وشارك فيها الدكتور جوزف جبرا (رئيس الجامعة اللبنانية الاميركية)، والمفكر جوزف ابو رزق (استاذ الجماليات في الجامعة اللبنانية والألبا)، والدكتورة الهام كلاّب البساط، والدكتورة زينات بيطار، وادارها الشاعر هنري زغيب (مدير مركز التراث اللبناني) الذي قال: «ضاقت به الريشة على التعبير، ضاق به اللون عن الصراخ، ضاقت به القماشة البيضاء عن المدى، فكسر كل مألوف».
وبدورها قالت زينات بيطار: «ينطلق وجيه نحله نحو آفاق تشكيلية منفتحة على العالمية، وتتعدى حدود الزمان والمكان لتصبح قيمة فنية تتوحد فيها الطبيعة، والخيال، المرأة والخيل (رمز الانعتاق الروحي) وفنون الموسيقى والرقص والتصوير».
اما جوزف ابو رزق، فاعتبر ان «الحيوية والسرعة والخفة التي يبديها وجيه نحله في اثناء تنفيذ لوحاته، ليست بالمناورات المجانية ولا بالحركات البهلوانية بل بالمواقف التي يفرضها طبعه البركاني من جهة، ورغبته الملحة في ترجمة معطيات حدسه بصورة فورية».
بعد الندوة الحوارية والشريط الوثائقي، انتقل الحضور من الصالة الكبرى الى الصالتين الجانبيتين، لرؤية اعمال المحتفى به، عبر المراحل العديدة التي مرّ بها خلال 60 سنة، والمعاناة الكبيرة التي بذلها من اجل تحقيق ذاته، تاركاً بصمته الخاصة في تاريخ هذا الفن الجميل.
مراحل عدة
كُتب الكثير عن الفنان وجيه نحله، وسيكتب عنه في المستقبل اكثر فأكثر… فهو الفنان المتمرد الذي احدث ثورة في تاريخ الفن التشكيلي…
قبل 60 سنة بالتمام والكمال، بدأ وجيه نحله مسيرته، عبر الانطباعية التي كانت مرحلة عابرة في حياته، ومن ثم، وجد طريقه نحو مرحلة الاسلاميات، ولم يلبث ان انتقل الى المرحلة الحروفية، فاستطاع ان يبدع لوحة فنية متكاملة، تنتمي الى التراث والحداثة معاً. وهذه اللوحة المشرقية تخطت حدود العالم العربي نحو الآفاق العالمية، واصبحت تشكّل الجسر بين الشرق والغرب. ولأنه يؤمن بالتجديد والتطور، تابع مسيرته نحو مراحل متقدمة أخرى… وصولاً الى مرحلة الحركة واللون، وذلك في خط تصاعدي بين الماضي والحاضر،. حيث اللوحة اللونية المتحركة والمدهشة. فالى النورانيات والخيول، ولوحة اللون الواحد، واللوحة الفضائية…
من الانطباعية الى التجريدية
وهكذا، بعدما كشف عن جمالية الحرف العربي الذي منحه بُعداً عالمياً، رأيناه يكشف عن جمالية اللون والحركة، وصولاً الى التصوف والانعتاق الروحي… وصارت لوحته تحمل الكثير من الدلالات والايحاءات والشفافية.
وباختصار، انطلق وجيه نحله من اللوحة الانطباعية وانتهى باللوحة التجريدية.
من هنا، قال عنه الناقد الفرنسي الكبير اندريه بارينو، بعد معرضه العالمي الاول في «غاليري والي فندلي» في باريس سنة 1977، انه «اكثر التجريديين قرباً من الواقع واكثر التصويريين تجريداً…».
على اتساع العالم
باستطاعتي القول، ان نشاطات وجيه نحله الفنية غطت جميع القارات تقريباً، من الشرق الاوسط الى الاقصى فافريقيا، مروراً بأوروبا والاميركتين… حيث دخلت اعماله الى كبريات متاحف العالم، والى البيوت والقصور، وامتدت الى الساحات والاماكن المختلفة…
وهنا، لا يسعني، الا ان اذكر اهم المدن التي عرض فيها اعماله: بيروت – الاسكندرية – بغداد – الكويت – الرياض – دبي – ابو ظبي – روما – بلغراد – باريس – كان – نيس – لندن – البندقية – نيويورك – لوس انجلوس – واشنطن – بيفرلي هيلز – بوكاراتون – أوزاكا – جنيف – كوالالمبور – بروناي – مونتريال – زوريخ – البحرين – والسلسلة طويلة…
اما الجوائز فكثيرة… وهو يقول في هذا الصدد: «ان الجوائز الحقيقية التي ينالها الفنان، ليست تلك التي تعلّق على صدره، بل هي الاعمال التي ترك الأثر من بعده».
دائم البحث والعمل
وهو الذي قال لي ذات يوم: «هذا العطاء يعني لي الكثير، ولا سيما على الصعيد اللبناني، اذ انني ساهمت الى حد بعيد في تأدية الدور الذي رسمته لنفسي من خلال انتشار لوحاتي الفنية في مختلف بلدان العالم…».
وعندما سألته، كيف يواجه النجاح العالمي الذي حققه؟ كان جوابه: «ليس المهم ان يحقق الفنان النجاح، بل ان يحافظ على مستوى النجاح الذي وصل اليه، بالعمل الدؤوب والجاد والمخلص… لان المحافظة على النجاح اصعب من الوصول اليه… وهذا السبب بالذات، يجعلني دائم البحث والعمل، ودائم الطموح نحو الافضل».
صرخة من الشرق
انطلاقاً من ذلك كله، تمت محاربة وجيه نحله، بوسائل مختلفة، تارة عبر اقلام النقاد المريضة والحاقدة، وطوراً عبر نشر الشائعات الرخيصة… وما زالت هذه الاساليب مستمرة حتى يومنا هذا!
ولكن «يا جبل ما يهزك ريح» فهو لا يكترث بذلك كله، بل انه تابع مسيرته التي انطلقت من الوطن الصغير، وصولاً الى العالم الكبير، الذي دخله كالفاتحين، بجدارة ونبل وعنفوان، بعدما صبغ الفن العالمي المعاصر بلون الشرق… وبعدما انقذ مسيرة الفنون التي لا نهاية لها، من الروتين والملل.
وجيه نحله هو الانسان الذي يغرف من الينابيع، ويسترشد بعمق التراث… تاركاً امام العالم اسماً من لبنان، وصرخة من الشرق.
عازف الألوان
ستون سنة، وهو يتعايش مع الفرشاة، ويتلاعب بالخطوط والالوان، ويمارس احد اجمل فنون التعبير…
قبل اكثر من 20 سنة، سألته: كيف تختصر لي هذه المعايشة الطويلة للفن؟
اجابني باختصار شديد: «بضربة فرشاة على القماش!».
وعندما طلبت منه تحديد ذلك… قال: «بعد معايشة الفن مدة 40 سنة، يصل الفنان الى مرحلة يتعاطى فيها مع اللون بطريقة مختلفة، وبعفوية مطلقة، تماماً مثل عازف البيانو الذي لا يعود يفكر اين يضع اصابعه، وتصبح خبرة الفنان ومكتنزاته وانفعالاته هي التي تتحرك فوق اللوحة. وهنا يلعب ذكاء اليد الدور الكبير، بمعنى ان اليد تصبح السباقة في الحركة، قبل ان يعطيها العقل الاوامر».
فنان مخضرم
وتابع قائلاً: «ومن ثم، هناك الاطلاع الواسع الذي يختزنه الفنان في داخله، وخصوصاً بالنسبة الى فنان استطاع ان يتجول حول الكرة الارضية مرات عدة، ورأى معظم صالات العرض في العالم، وعاش جميع الحركات والمدارس الفنية المعاصرة، وعاشر اهل الفن وزار محترفاتهم، واكتشف اسرار اللعبة الفنية… ان ذلك كله، من شأنه ان يشحن المخيلة والذاكرة باللمعات والومضات والصور والاشكال والافكار، التي يتم تجسيدها في العمل الفني. وهذه العملية لا يصل اليها الا الفنان المخضرم».
وبعد، لقد استهلكت هذه التجربة الفنية العارمة، 60 سنة من حياة وجيه نحله… وبالرغم من ذلك، فهو ما زال يواظب على العمل مدة 18 ساعة يومياً، غير عابىء بتراكم السنوات! أطال اللّه بعمره
اسكندر داغر