رئيسيسياسة عربية

العراق… الصدر هل قراره بالاعتزال جدي هذه المرة؟

قبل فترة قصيرة، اوردت وكالات الانباء خبراً مفاده ان زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، قرر اعتزال العمل السياسي. وفي زحمة الاحداث السياسية، وفي خضم التطورات العسكرية الدراماتيكية على الساحة العراقية وفي دول الجوار، ضاع النبأ او فقد وهجه ولم يتوقف عنده المحللون والمراقبون والمعنيون، مع ان الرجل وتياره هما مكون من مكونات المعادلة السياسية في بلاد الرافدين.

لم يعرف ما اذا كان عزم الصدر على الاعتكاف عن ممارسة الشأن العام او اعتزال العمل السياسي جدياً وحاسماً، ام ان الزعيم الديني والسياسي الذي برز على الساحة العراقية فجأة بعيد الاجتياح العسكري الاميركي للعراق، يكرر «لعبة» سبق ولجأ اليها، بل اتقنها هي لعبة الاختباء والاحتجاب لفترة من الزمن، تحت هذا العنوان او ذاك، ثم العودة الى واجهة العمل السياسي وكأن شيئاً لم يكن؟
لهذا السؤال ما يبرره في رحلة العمل السياسي لهذه الظاهرة السياسية في العراق، اذ ان ظهوره اساساً على الساحة، كان من خارج كل حسابات وتحليلات المراقبين والذين يعتبرون انفسهم خبراء في تفاصيل الشأن العراقي والتركيبة السياسية فيه.
فالمعلوم ان الصدر وتياره فرضا نفسيهما منذ الاسابيع الاولى لاجتياح العراق وسقوط نظام صدام حسين في ربيع عام 2003. في ذلك الحين، لم يكن الصدر قد انهى العقد الثاني من عمره، وقدم نفسه على اساس انه وريث ظاهرتين اثنتين في المعادلة السياسية والدينية الشيعية في العراق، فهو اولاً سليل عائلة الصدر الدينية التي ما خلت مرجعية النجف من عالم كبير منها في حوزتها الدينية العلمية منذ اكثر من مئتي عام.

زعيم تيار شيعي
ووالده محمد صادق الصدر الذي قضى غيلة في عام 1999 كان آخر حبات هذه العائلة البارزين، فضلاً عن حماه الاشهر وهو محمد باقر الصدر الذي قضى ايضاً قتلاً في عام 1980 على يد نظام صدام حسين.
وهو ثانياً قدم نفسه على اساس انه زعيم لتيار شيعي عراقي عريض من الشيعة العراقيين الذين آثروا الصمود داخل العراق متحملين صلف نظام صدام حسين وممارساته التي ازدادت ولا ريب جوراً بعيد الاجتياح العراقي الشهير للكويت في عام 1992 وحرب الخليج الثانية.
وعلى هذين الاساسين اتضح لاحقاً ان الصدر يمثل فعلاً تياراً عريضاً من شباب الارياف المهمشين والمعدمين، سواء في محافظات الجنوب او داخل احياء معينة من بغداد، وخصوصاً مدينة الصدر التي يقطنها اكثر من مليوني نسمة غالبيتهم العظمى من النازحين من الارياف الى العاصمة.
وبناء على هذه الوقائع، ظهر لاحقاً الآتي:
– ان الصدر يقدم نفسه على اساس انه «الوريث الشرعي» والحصري للزعامة الشيعية في العراق.
– انه نسيج وحده في الدين والفقه والعقيدة والسياسة، لذا فهو لحظة ظهوره في ميدان السياسة، فتح ابواب مواجهة علنية مع المرجعية الدينية في النجف من خلال تسمية نفسه بـ «الحوزة الناطقة».
– ايضاً تعامل استهلالاً مع القوى الشيعية المعارضة الوافدة من الخارج على انها دخيلة ولا يحق لها التدخل في السياسة، مما يحق له هو كونه الصامد في الارض والمضحي الاكبر.
– منذ البداية بدا مخالفاً في السياسة لكل توجهات البيت الشيعي العراقي، اذ اعلن حرباً مفتوحة ومعلنة على الوجود العسكري الاميركي في العراق من خلال اطلاق ما اسماه «جيش المهدي» ومن ثم انحيازه بداية الى المجموعات المعارضة للاحتلال الاميركي الرافضة له، وبعدها دخوله في مواجهات عسكرية مع القوات الاميركية والعراقية المخالفة له في النجف وكربلاء، وسواهما من حواضر الجنوب العراقي، وهي مواجهات ألحقت به وبميليشياته خسائر بشرية فادحة، فضلاً عن انها جمعت كل المكونات السياسية والدينية الشيعية في مواجهته وحيداً ومعزولاً في الميدانين السياسي والعسكري، الى ان انتهى به المطاف الى مد جسور المصالحة والعودة تدريجاً الى «بيت الطاعة الشيعي».

احتجاب
ولاحقاً وللمرة الاولى، احتجب الرجل عن الواجهة بعدما حل «جيش المهدي»، وقيل انه اختفى بفعل وجود خطر على حياته، وقيل ايضاً انه ذهب الى حوزة قم في ايران لاستكمال رحلة تعلمه الديني لبلوغ مرحلة الاجتهاد والفتوى.
 ثم عاد الى النجف بعد فترة غياب استمرت اكثر من سنتين ليصب غضبه على تياره وعلى اداء عناصره السيىء وضعفهم الثقافي والفكري. وقد سرت في ذلك الحين معلومات تقول بأن الرجل في صدد الاعتكاف والاعتزال السياسي نهائياً على غرار ما فعل في الايام القليلة الماضية عندما عزا اعتزاله العمل السياسي الى تصرفات بعض انصاره «الذين وضعوا سمعة آل الصدر على المحك والذين لا يعرفون غير حمل السلاح»، داعياً اياهم الى «رص الصفوف وتثقيف طبقات الناس السذج».
وبمعنى آخر، ليست المرة الاولى التي يقرع فيها الصدر جرس الانذار لانصاره ومريديه ولخصومه على حد سواء، معلناً انه في طور الخروج من حلبة اللعبة السياسية وحل تياره بفعل ما تسلل اليه من عوامل الوهن السياسي والضعف الفكري والعقائدي او بفعل يأسه وقنوطه من اللعبة السياسية في العراق، وخصوصاً في الوسط الشيعي الذي يحرمه الكثير من الادوار والمواقع ويعطيها الى سواه وبالتحديد لرئيس الوزراء نوري المالكي والذي صار لاحقاً خصمه الاساسي في السياسة والريادة والزعامة.

  هجمة سياسية
فثمة احساس لدى الصدر يتسع يوماً بعد يوم، بأن ثمة هجمة سياسية عليه لتقليص دوره ونفوذه وحضوره، فضلاً عن ان الرجل لم ينجح خلال الاعوام العشرة الماضية في ان يحتفظ بوهجه وألقه السياسي الذي كان له في بداية انطلاقته السياسية، كما لم يستطع ان يبلغ درجة الاجتهاد في العلوم الدينية، مما يسمح له باستعادة مرجعية آل الصدر.
فالمعلوم ان تياره تعرض خلال الاعوام الخمسة الماضية لعمليات انشقاق وتفكيك متعددة كان ابرزها انشقاق «عصائب اهل الحق» ومجموعة «حزب الله العراق» بزعامة الزعيم القبلي السياسي المعروف الشيخ قيس الخزعل، فضلاً عن مجموعات وشخصيات اخرى آثرت الانسحاب من «التيار الصدري» اما الى تنظيم آخر، او للانكفاء نحو الظل.
واللافت ان المجموعات المنشقة عن التيار الصدري، دخلت في مراحل ومحطات متعددة في مواجهات عسكرية مع انصار مسلحي وميليشيات «التيار الصدري».
واذا كان الصدر تلقى وتياره ضربات متعددة من الوسط السياسي الشيعي العراقي رغم كل محاولاته للظهور في ادوار مميزة، فإنه اخفق على المستوى الوطني في ان يتحول الى زعيم وطني عابر لحدود طائفته.
فالمعلوم ان الصدر حاول ان يكون صاحب ادوار وطنية، وخصوصاً عندما وقف بداية الى جانب المجموعات السنية المسلحة والمعارضة للواقع السياسي الذي استجد بفعل الاجتياح العسكري الاميركي، الا ان التطورات المتسارعة في الساحة العراقية وعمليات الانقسام والاحتقان والتطورات الامنية العراقية في الفترة الممتدة خصوصاً بين عامي 2006 و2008، فرضت على قاعدته الانخراط في المواجهات وعمليات التصفية والقتل الى جانب مجموعات شيعية اخرى مسلحة، مما بدد كل جهود الصدر في الظهور بمظهر الزعيم الوطني الخارج من عباءته المذهبية والطائفية.
وعلى رغم ان الصدر سارع لاحقاً وتحديداً بعد آخر انتخابات عامة جرت في العراق قبل نحو ثلاثة اعوام الى الركوب في قطار القوى المعارضة للمالكي، ولا سيما القائمة العراقية بزعامة اياد علاوي والتحالف الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، من خلال التحاقه باجتماعات اربيل الشهيرة وانضمامه الى لائحة المطالبين بسحب الثقة من المالكي في البرلمان العراقي توطئة لاستبداله بشخصية اخرى كمدخل الى تسوية وحل سياسي للازمة في العراق، الا انه ما لبث ان سحب توقيع نواب كتلته المطالبين بحجب الثقة عن المالكي، مما عطل مسيرة المعارضين نحو اطاحة المال
كي، فضيع عليهم فرصة ذهبية بعدما اعتقدوا لبعض الوقت انهم أمنوا انضمام الصدر اليهم الذي يبيح لهم تحقيق غايتهم الكبرى.

  تأمين مظلة سياسية
وعليه، فإن الصدر لم يستطع ان يذهب في رحلة المعارضة للمالكي الى النهاية الكبرى، اذ ظل خائفاً من مخالفة الاجماع الشيعي في احتضان رئيس الوزراء وتأمين مظلة سياسية له رغم اعتراض الكثيرين على سياسته وادائه ونهجه، ربما ادراكاً منه ان مضيه في هذا الخيار الصعب حتى النهاية سيحمله تداعيات في قاعدته وفي طائفته، لن يكون بمقدوره تحمل تبعاتها. ومن المؤكد انها كانت ستساهم في تراجع دوره وحضوره بشكل اكبر.
في ظاهر المعادلة السياسية العراقية الحالية ولا سيما التركيبة السياسية الشيعية المعقدة يبدو الصدر في وضع جيد، اذ لديه نحو ستة وزراء في الحكومة الحالية التي يلجأ الى مقاطعة جلساتها، وله كتلة نيابية من اكثر من 30 نائباً اي اكثر من كتلة المجلس الاسلامي العراقي الاعلى بزعامة عمار الحكيم، ولديه حضور في مجالس المحافظات، فضلاً عن انه يحظى بدور سياسي مميز. وهذا ما يدعو الى التساؤل عن ابداء رغبته المتكررة في الاعتزال والاعتكاف.
الواضح ان التخفي واعلان الاعتزال او الاعتكاف، باتا جزءاً من شخصية الصدر ومن تراثه السياسي وادائه، فهو يحتاج الى هذا النوع من «الصدمات» بين الحين والاخر بغية تأكيد حضوره وتعزيز وجوده وتأليب انصاره وتوجيه رسائل الى من يعنيهم الامر في داخل العراق وفي خارجه، وهي رسائل بطبيعة الحال غايات يستدرج من ورائها اهدافاً ومقاصد.
وعليه، فالاكيد ان رغبة الصدر بالاعتزال والاحتجاب كما هي العادة، ليست نهائية وثمة اكثر من مبرر وحجة لكي يعود عنها.
ولكن الواضح ان الامر كله لن يعدو كونه قنبلة صوتية، فالعراق كله غارق بمشاكله والمكونات السياسية جميعها تعيش ازماتها.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق