آدب

الهام كلّاب: كانت عفيفة كرم ثورة على كل ظلم وظالم

في الماضي البعيد، وبالتحديد في القرن التاسع عشر وما بعده، شهد لبنان أديبات مبدعات مارسن الكتابة في مختلف فنونها، وتناولن الموضوعات المتنوعة، وخصوصاً قضايا المرأة، بحثاً عن حقوقها وحريتها ودورها في الحياة. من هنا، أذكر اسم الكاتبة اللبنانية عفيفة كرم: الصحافية، والناقدة الإجتماعية والأدبية، والمترجمة، والروائية، والمناضلة الرائدة… وقد يجهل القراء اليوم، تاريخ هذه المرأة المعطاء… وما تركته من نتاج أدبي متنوّع. في هذه السنة، تمرّ الذكرى المئوية الأولى على صدور روايتها “غادة  عمشيت”، و 130 سنة على ولادتها في بلدة عمشيت، و 110 سنوات على رحيلها عن 41 سنة في ولاية لويزيانا الأميركية. انطلاقاً من ذلك كله، التقيت ابنة عمشيت أيضاً، الباحثة الدكتورة إلهام كلّاب التي لا تقلّ عنها أهمية في ميدان الكلمة، مستعيدة سيرتها الحياتية والأدبية.

هل بوسعك أن تقدّمي للقارىء صورة جلية عن الكاتبة الراحلة عفيفة كرم؟
لم تكتب عن عفيفة كرم إلا دراسات قليلة ومقالات عابرة. ولكن من خلالها، ومن استقراء آثارها الباقية تتشكل أمامنا صورة هذه الأديبة الروائية والمترجمة والصحافية والناقدة والمناضلة، شخصية تميّزت بعصاميتها وإنسانيتها ووطنيتها، وخصوصاً بمثابرتها وجرأتها الفكرية وثورتها على كل ظلم وظالم.

منزل علم وثقافة
إذاً، ننطلق من البداية؟
ولدت عفيفة كرم في 26 تموز (يوليو) في عمشيت، التي كانت في القسم الثاني من القرن التاسع عشر بلدة وجهاء وتجار حرير ومقصد العديد من أدباء ومفكري الغرب والشرق (من رينان الى موريس باريس الى الشرتوني واليازجي والريحاني وغيرهم) مع أن أمواج الهجرة حملت نصف سكانها الى المهاجر الأميركية.

نشأت عفيفة كرم في منزل تميّز بالعلم والثقافة. والدها يوسف صالح كرم كان طبيباً، ومساعداً للخواجه مخايل بك طوبيا الكلّاب المعروف بأعماله الإنسانية ومواقفه السياسية والوطنية (ظهر شخصية رئيسية بالاسم في كتاب عفيفة كرم “غادة عمشيت”) وكانت أمها فروسينا “أنيسة المجلس، متكلمة، فهيمة وفاضلة” درّبتها على القراءة والكتابة، وساعدت والدها في تجارته.

حنين الى العودة
ما هو الحدث الأساسي في حياتها؟
الحدث الأساسي في حياة الصغيرة (التحقت سنة 1895 بمدرسة الراهبة أورسولا في جبيل سنة وفاة والدها) كان زواجها السنة التالية 1896 وهي في الثالثة عشرة، من نسيبها التاجر المهاجر حنا كرم وهجرتها معه الى شريفبورت في ولاية لويزيانا الأميركية مع أمها وأختها أمينة.
عانت عفيفة من حنين الإغتراب، وآلمها بعدها عن عمشيت “المحبوبة” كما كانت تذكرها دوماً، وتذكر فيها أسعد أوقات حياتها. وكانت عليلة الصحة تؤمن بأن عمشيت دواؤها وتحنّ للعودة إليها ولو الى ترابها.

في جريدة “الهدى”
كيف دخلت الى ميدان الكتابة؟
لم تنجب عفيفة، وانصرفت بكل قواها وحبها للمعرفة الى المطالعة، فإرتبطت بجريدة “الهدى” في نيويورك، وتوثقت علاقتها بصاحبها نعّوم مكرزل الذي شجّعها وأطلق قلمها ورعى حبها للكتابة.
بدأت تتجلى معالم شخصيتها المهجرية: عصامية، حيوية، جريئة، مثابرة، متيقظة، حرّة دعت في كتاباتها الى رفض التقاليد البالية وتحرير المرأة، وإلى إصلاح أوضاع الوطن. تميّزت بعفوية وغزارة في الكتابة لم تتوقف حتى مماتها. كانت تكتب سنوياً نحو 220 أو 250 مقالاً وتراسل أحياناً أربع مجلات في وقت واحد.
توازياً مع دفاعها عن المرأة والوطن وحرية الإختيار والمعتقد، كانت محسنة تجمع المال لمنكوبي الحرب في لبنان، تتبنى الأيتام، تساعد فقراء المهجر وتقدّم مساعداتها الجزيلة ورعايتها الأثيرة، خصوصاً ل “الميتم السوري”. ولم تكن تلك المساعدات إحساناً بل موقف تجلى أثره في كتاباتها، هي التي تميّزت أساساً بإنتاجها الأدبي المتنوع الهادف.

منبر الصحافة
إذاً، كانت تجربتها الأولى في الصحافة؟
صحيح. كانت الصحافة المهجرية منبر عفيفة كرم لنشر كتاباتها والدفاع عن أفكارها. ومنذ مقالها الأول في “الهدى” حتى وفاتها سنة 1924، التزمت قضية المرأة وتعليمها وحريتها في نصف مقالاتها التربوية والإجتماعية والوطنية.
وكانت الدعوة الى تحرير النساء وتعليمهن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أفسحت لظهور مجلات نسائية في بلاد المهجر. لذلك، لم تكتف عفيفة كرم بمقالاتها الصحافية فأصدرت مجلتين: “المرأة السورية” – 1911 – أسبوعية للحث على تعلّم اللغة العربية واتقانها، وعلى التوجه للنساء بإرشادات اجتماعية وعائلية وصحية، و “العالم الجديد النسائي” – سنة  1913 – شهرية اشترت امتيازها من سلوم مكرزل “العالم الجديد” واستقلت بإدارتها وتحريرها. وقد تكون عفيفة كرم من أوائل نساء لبنانيات قامت بإصدار مجلات في المهجر، مع صحافيات رائدات مثل هند نوفل أو مريانا مراش (1848 – 1919) وهي حصلت على إذن من الباب العالي لنشر مقالاتها السياسية.

قضايا وطنية ونسائية
ما هي القضايا التي التزمتها؟
كانت تكتب مقالاتها الغزيرة في زاوية “عواطف” من جريدة “الهدى”، انطلاقاً من عاطفة متقدة في قلبها تجاه الوطن البعيد، والمرأة المستلبة الوجود، فالتزمت القضايا الوطنية والنسائية.
جعلت من تعليم المرأة قضيتها الأولى ودافعت عن حرية الفتاة في اختيار حياتها وزواجها… وشجبت العنف بكل أنواعه: الفكرة والكلمة والنظرة والجسد، لأن العنف يجرّد المرأة من إنسانيتها وكرامتها.
في اللغة، طالبت بتعزيز العربية في المهجر وشجبت نهج مدارس لا تجعل من العربية لغة أساسية، وبدل “اللغة الأم” استنبطت تعبير “اللغة أم”. وفي السياسة، رفضت عفيفة كرم في مقالاتها الحروب، ورفضت الانتداب… ودافعت عن حزب “النهضة اللبنانية” الطليعي في المهجر وانتمت إليه وانتقدت استبداد الحكّام، وطالبت بفصل الدين عن الدولة…
في مقالاتها رؤية ثاقبة لأهمية التراث والآثار والعلم المستقبلي. وكانت مقالاتها تعريفاً بمشاريعها الحداثية في الوطن،كتمويل مشروع متحف لآثار جبيل، في جبيل، وتمويل مشروع إقامة جامعة لبنانية. متسائلة: “فهل من قيام لوطن لا تصان فيه آثاره؟”…

تجربة الترجمة
كيف تحددين تجربة عفيفة كرم في مجال الترجمة؟
ترجمت عفيفة كرم خمس روايات، الأولى بعنوان “ملكة اليوم”، وهي حسب نعّوم مكرزل “رواية تمثّل الوفاء في الزوجة والحب الشريف وإنكار الذات”. ويستحيل إيجاد النص الإنكليزي لأن عفيفة بدّلت في عنوان القصة وأسماء أبطالها ونقلتها من المجتمع الإنكليزي الى المجتمع العمشيتي مع عبارات محلية عامية عمشيتية.
والثانية بعنوان “محمد علي باشا الكبير”، وقد ورد في مجلة “المقتطف” في آذار (مارس) سنة 1921 أنها “رواية تاريخية غرامية، تأليف الكاتبة الروائية الألمانية ملباخ”. وكما كتبت عفيفة كرم “هذه الرواية سرد تاريخ رجل عظيم ليس من لا يعرف اسمه ولا من يذكر عظمته. ونهدف منها الى إتحاف قراء “الهدى” برواية تجمع بين فائدة التاريخ والتفكهة الروائية”.
أما الروايات الثلاث الباقية، فهي: “ابنة نائب الملك” لألكسندر دوما، و “نانسي ستاير”، و«كليوباترا” التي نسبتها بعض المراجع الى عفيفة كرم.

التجربة الروائية
وماذا عن تجربتها الروائية؟
بدأت عفيفة كرم بكتابة قصص قصيرة (من صفحة او صفحتين في صحف المهجر) ثم شرعت بكتابة قصص متسلسلة خصّت بها مجلة “الأخلاق” ثم انصرفت الى كتابة روايات صدرت عن مطبعة “الهدى”.
في سنة 1906، صدرت باكورة مؤلفات عفيفة كرم، وهي رواية نسائية غرامية أدبية بعنوان “بديعة وفؤاد” وكان عمرها 23 سنة. تطرح الرواية قضية التفريق الطبقي من خلال جيلين متتاليين. “بديعة” يتيمة تربّت في دير لليتيمات وخرجت تعمل خادمة لدى عائلة ثرية أحبها فيها إبنها “فؤاد” من النظرة الأولى، لكن الوالدة حبكت مؤامرات لإبعادها عنه وإرسالها الى المهجر…
الأدباء المهاجرون استقبلوا الرواية بحفاوة كبيرة، واعتبروها من “خيرة الروايات”، لأن “مطالعتها تغيّر في النفس وترفعها” كما ذكر جرجي نقولا باز في جريدة “المحبة” سنة 1907.
في سنة 1908، صدرت روايتها الثانية بعنوان “فاطمة البدوية”، وهي رواية وطنية يرى فيها القارىء تأثير الرجل العالم على المرأة الجاهلة، ويتجلى الوفاء النسائي، وكيف ان المرأة الفاضلة تبادل البغض بالحب، الجفاء بالوفاء، القسوة بالحنو… وتطرح الرواية قضية التضامن بين النساء ومشكلة الطائفية وعصبية رجال الدين. وكان عمر المؤلفة 31 سنة.
أما الثالثة فهي بعنوان “غادة عمشيت”، فهي رواية وطنية تاريخية ايقاعية، صدرت في سنة 1914، وعنها كتبت عفيفة كرم:«لم أحصل على لذة في حياتي الأدبية تفوق لذة كتابتي رواية “غادة عمشيت” هذه، لأني سردت في سياق وضعها، وحوادث تاريخية رأيتها رأي العين، وذكرت أسماء كل منها عزيز عليّ، مكرّم مني، وسمّيت مراجع صبوتي ولعبي فكان لذكرها عذوبة في قلبي. حاربت في هذه الرواية آفات هي أساس التعاسة العائلية، أعني “زواج الطفولة”… هذه الرواية جمرة سقطت من قلبي الملتهب”.
أسلوبها في هذه الرواية يشبه أسلوب مقالاتها الصحافية.

مرحلة مهجرية غنية
كيف تصورين المرحلة الأخيرة من سيرتها؟
تابعت عفيفة كرم كتاباتها ونضالها بشغف وحماسة، حتى لزمت الفراش أوائل 1924. جابهت مرضها بشجاعة مثلما جابهت بكتاباتها الجريئة كل ظلم وآفة.
توفيت في 29 تموز (يوليو) سنة 1924 عن 41 سنة. كان لموتها أثر بالغ على كل من عرفها.
رحلت عفيفة كرم، بعدما شاركت في صياغة مرحلة مهجرية غنية مع أدباء وأديبات كبار شاركوا بزخم في معالجة قضايا التحرر والحداثة وتقدّم النساء وتطوير المجتمعات وبناء الأوطان، والغوص في تاريخ عمشيت الإجتماعي والثقافي، وهو لا يزال مشتتاً في عليّات بعض المنازل القديمة ومكتباتها.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق