آدب

غسان مراد: صار الكومبيوتر بديلاً من أرسطو؟!

في اطار نشاطات «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» عقدت ندوة حول كتاب «الانسانيات الرقمية… ترويض اللغة» للباحث في الهندسة اللغوية الدكتور غسان مراد، الذي يبحث مطولاً في ثقافة التكنولوجيا والادوات المعلوماتية الجديدة التي اصبحت من المراجع الثقافية والعلمية المتداولة بين الناس، ولكنها «ابنة اللحظة» – اذا جاز التعبير – اذ سرعان ما تغيب في غياهب الذاكرة، امام دفق المعلومات المنهمرة على الشبكة من كل اصقاع الارض. كما انه يتطرق الى موضوع الكتاب الالكتروني المنافس للكتاب الورقي الذي ما زال صامداً امام الآلة المفترسة، وذلك كما يتبين من الاحصاءات الكثيرة التي تجري من حين الى آخر. من هنا، يحاول الدكتور غسان مراد، «ترويض اللغة» في سبيل «ارساء المصطلح المناسب مع المتغيرات العميقة في وسائل الاتصال».

قدّمت الندوة، الباحثة جهينة الخالدية، معتبرة ان التكنولوجيا اتاحت لنا ان نكون هنا، في هذا العالم، وخلقت لنا هويات رقمية مختلفة. ولكن يبقى موضوع تطابق  هذه الهويات مع هوياتنا محط تساؤل: هل نحن… نحن على الشبكة؟ هل نشبه فعلاً كل ما نعبّر عنه من مواقف شخصية وسياسية وافكار مجتمعية؟ ام اننا نتلطى خلف  سيل من الاقتباسات الشهيرة التي يسهل نقلها؟ هل فعلاً قرأنا كل تلك الكتب التي نشير اليها في ملف التعريف عنّا؟ وهل شاهدنا كل تلك الافلام؟ وهل نحن فعلاً معجبون بكل تلك الشخصيات؟

مجرد ادوات
وتشير الباحثة، الى ان هناك كثيراً من هذه الاسئلة تتبادر الى اذهاننا. وكتاب الدكتور غسان مراد «الانسانيات الرقمية… ترويض اللغة» في سبيل معالجتها آلياً، وتساؤلات في ثقاقة التكنولوجيا من اجل طرح علوم انسانية جديدة، يذهب بأسئلته ابعد من ذلك، ويفتتح كتابه بنص يبدأ بسؤال: هل اصبحت الادوات الالكترونية فائقة التسلّط في القرن الواحد والعشرين، الى حدّ انها تسيطر فعلياً على عقول البشر؟ هل صارت وسيلة للفكر، ولم تعد مجرد اداة تساعد المفكر؟ هل صار الكومبيوتر بديلاً من آرسطو وبديلاً من الفلسفة بعمومها؟
ويعود غسان مراد ليلفت الى ان هناك خيطاً واحداً يربط بين هذه الاسئلة، وهو ان ادوات المعلوماتية كلها – بداية من الكومبيوتر ووصولاً الى الشبكات المتطورة للذكاء الاصطناعي – هي مجرد ادوات، ويفترض ان تبقى كذلك لتعين الفكر الانساني في رحلته الدؤوبة في البحث والمعرفة… لكن هل وصلت هذه الادوات الى درجة من التطور بحيث صارت هي نفسها تشكل نمط تفكير خاص بحد ذاته، وتخطت دورها بأنها مجرد أدوات؟

 سلاح ذو حدين
الدكتور انطوان شهاب اعتبر ان استعمال المصادر المعلوماتية والانترنت كمرجع علمي وثقافي هو سلاح ذو حدين. وان جودة النتيجة النهائية تتأثر نسبياً بالمستعمل او المستهلك، فالباحث المحترف او المتخصص قادر على انتقاء المعلومات بشكل فعّال عبر تمييز المصداقية والجدّية والموضوعية، وتكون الحصيلة دراسة او بحثاً له  قيمة او صدقية عالية. اما القارىء العادي،  فغالباً ما يدخل  الى الانترنت عبر محرّك البحث مستعملاً وصفاً غير دقيق وكلمات مفتاح خاطئة، ونظراً الى الكمية الهائلة من المعلومات فان محصول البحث سيكون خيالياً.

الكتاب الورقي
وتطرق انطوان شهاب الى موضوع الكتاب الالكتروني الذي تتكاثر الحملات الاعلامية والاعلانية لترويجه وتسويقه (أداة ومحتوى) كمستقبل  القراءة «وآخر صرعة» ثقافية، ليستنتج ان الكتاب الورقي باق  حتى اشعار آخر، وهذا الوضع طبيعي في رأيه بالنسبة الى هواة القراءة ومحبّي الكتاب، فهم لا يزالون متعلّقين بالكتاب الورقي (الحسي والملوس) وغير مقتنعين بالتحول الى الكتاب الالكتروني، وقد تبين ان المعدل السنوي للقارىء الجدّي يتراوح من 40 الى 50 كتاباً.
وهو يرى، ان هؤلاء القراء المثابرين يعتبرون ان الامساك بالكتاب وتصفح الورق او حتى شمّ رائحة الحبر، هي امور تساهم في متعة القراءة، بحيث ان العلاقة مع الكتاب تصبح وطيدة وحميمة وحتى تفاعلية حين يأخذ القارىء قلمه ويسطر بعض الجُمل – أكان موافقاً ام معارضاً – او يدوّن ملاحظاته الشخصية على هامش الصفحة، او في بعض الاحيان اموراً شخصية بحتة، فيصبح الكتاب من الاغراض الشخصية التي يتعلق القارىء بها، واحياناً يكون شاهداً او ذكرى لحدث معيّن. من الواضح، ان الكتاب الالكتروني – العملي جداً كمرجع او معجم او أطلس الخ… – غير قادر على ازاحة الكتاب الورقي واستحواذ القيمة العاطفية لدى القارىء.

علامة فارقة
اما الدكتور رمزي ابو شقرا فاعتبر ان كتاب «الانسانيات الرقمية» كتاب ورقي يدخل بالقارىء والقارئة الى عالم الكومبيوتر والشبكة المعلوماتية اللامتناهية… لافتاً، الى انه كتاب يجمع بين بعض من همّ المواطنة، فيتناول التربية والتعليم الجامعي، وبعض من همّ الانتماء والهوية، فيتناول اللغة العربية في مهبّ العولمة، وبعضاً من همّ مواكبة العصر، فيطرح اشكاليات التفاعل مع الذاكرة الرقمية وتلك الرقاقات التي كلما تناهت في الدقة وصارت في حجمها اصغر، كلما أمست خارقة و«انطوى فيها العالم الاكبر».
وخلص الى القول، ان «الانسانيات الرقمية» للباحث في الهندسة اللغوية، غسان مراد، علامة فارقة من بين العلامات في اصدارات دُور النشر، يكفيه انه ممارسة لقناعة: ان اللغة العربية قادرة على حمل المعرفة العلمية والتعبير عنها، شرط ان يحمّلها ابناؤها اداة لطلب العلم. وليس بعد هذا التحدي من تحدّ.

تحفيز الادمغة العربية
بدوره، اشار الدكتور احمد المغربي الى ان من وضع هذا الكتاب هو مختص عربي في اللسانيات الحاسوبية، بل انه واحد من نخبة صغيرة من المختصين في هذا العِلم الشائك… يخوض الكتاب في بحر من النقاش لا يلقى اهتماماً مناسباً له في دنيا العرب، ويعتبره الكتاب الأول من نوعه في الانسانيات الرقمية. لافتاً الى شيء اساسي تفتقده علوم الكومبيوتر الرقمية عند العرب: الاشتغال على اللغة وتراكيبها وربطها مع الرياضيات، وهما مساختان هائلتان وشبه فارغتين. الارجح، انه منذ اعمال عبد القادر الجرجاني لم يجر اشتغال كبير على العلاقة بين تراكيب اللغة العربية ودلالاتها، والاشد ايلاماً وارباكاً انه لم يظهر عند العرب من اشتغل بقوة وتراكم على العلاقة بين الرياضيات ولغة الضاد، على غرار ما جرى في اللغة الفرنسية مثلاً، على يد ديكارت وسبينوزا. من هنا، يساعد غسان مراد على تحفيز الادمغة العربية للاشتغال على هذين المعطيين وهما اساسيان لظهور «انسانيات رقمية» عربية بالمعنى العميق والواسع.

ترويض اللغة
الدكتور عفيف عثمان اعتبر ان الكتاب يحضنا على التفكير عربياً في عصر المعلوماتية والاستفادة من ادواتها بغية ولوج الالفية الثالثة من احد ابوابها المشرّعة، ويقدّم لنا ثبتاً من المصطلحات المنحوتة باللسان العربي، ودعوة الى علم جديد هو «الانسانيات الرقمية» الذي يجمع بين مفاهيم العلوم الانسانية الراسخة والتقنيات الرقمية، الى اهتمام الباحث بمسألة «ترويض اللغة» في سبيل ارساء المصطلح المناسب مع التغيرات العميقة في وسائل الاتصال.
وفي رأيه، ان العلوم الانسانية تستفيد من الرقمنة لانتاج منهجية جديدة، والمثل البارز الذي يقدّمه الدكتور مراد «الألسنية المعلوماتية»، وهي شق تطبيقي لما يسمى «المعالجة الآلية للغات الطبيعية»، بحثاً عن الدلالات في النصوص. ويسلّط الضوء على ارتقائية مسيرة العلوم وتعاونها وتضافر الاختصاصات المتعددة: الانتروبولوجيا، علم الاحياء، اللسانيات، العلوم العصبية، اضافة الى الذكاء الصنعي، ومجالات عدة اخرى…

تبسيط النص العلمي
كما تطرق عفيف  عثمان الى ما ورد في كتاب غسان مراد عندما اشار الى دور المدونات في الفضاء الالكتروني في توجيه النظر الى موضوعات بعينها، والى امكان تكوينها مجموعات ضغط لا يمكن تجاهل مطالبها… ومن موقع الخبير والعارف، يرى الى اهمية تدريس المعلوماتية في العلوم الانسانية، وهي باتت مادة في كل الاقسام في الجامعة اللبنانية، ويعتبرها قضية ثقافية بالدرجة الاولى، فمعرفة التكنولوجيا من العمق تتيح للدارس مواكبة العصر «الرقمي».
وخلص الدكتور عثمان الى القول، ان الدعوة الى الانفتاح على علوم العصر وفي مقدمتها المعلوماتية، تقتضي في نظر الدكتور مراد، فهمها وتبسيطها، بما يؤدي الى ثقافة علمية تشرك الناس في امور البحث كجزء من الممارسة الديمقراطية ومن الشأن السياسي، فتبسيط النص العلمي يساعد في اعطاء العلوم معناها كوسيط بين الانسان والعالم، ما يجعل ذلك التبسيط شرطاً من شروط بناء الواقع ومتخيلاته المتنوعة.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق