انطون قازان… كل ما كتبه خلال حياته القصيرة
كان المحامي الراحل انطون قازان من أولئك الذين يمارسون المحاماة، وفي الوقت نفسه، يمارس الأدب بحب وشغف وعمق، تماماً كما فعل غيره من المحامين في لبنان، من أمثال: بشارة الخوري وشارل حلو ويوسف السودا وعبدالله لحود وجوزف مغيزل وعبدالله الأخطل وجوزف باسيلا وفؤاد المشعلاني واميل بجاني وغالب غانم وادمون رزق وعصام كرم وسليم باسيلا والسلسلة طويلة… فالعلاقة بين الأدب والمحاماة في لبنان علاقة قديمة ووثيقة، وتعتبر ظاهرة لافتة، لا نجدها في أي ميدان آخر، ولكن هذا لا يعني ان كل من مارس المحاماة بإستطاعته ان يبرز في ميدان الأدب! وما دفعني الى قول ذلك، صدور المجموعة الأدبية الكاملة لأنطون قازان، في طبعة جديدة، عن «دار النهار للنشر» في بيروت، في ستة أجزاء، وفي تجليد فني فاخر. وشملت هذه المجموعة كل ما كتبه قازان خلال حياته القصيرة في هذه الدنيا، في الأدب والشعر والقانون والخواطر والمقالات والبحوث والمحاضرات، وما الى هنالك من كتابات مهمة نعود اليها في كل حين.
أبصر انطون قازان نور الحياة في بلدة زوق مكايل اللبنانية سنة 1927، ورحل وهو في السابعة والأربعين من العمر في العاشر من آذار (مارس) 1973، إثر مرض مفاجئ، لم يمهله سوى بضعة أيام.
تلقى علومه في معهد عينطورة، ثم التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية، في بيروت، وتخرّج فيها محامياً وتدرّج في مكتب الشيخ بشارة الخوري، وما لبث أن استقلّ.
تمثال وشارع بإسمه
بعد رحيله، نحت له الفنان حليم الحاج تمثالاً، وأزيح الستار عن التمثال، الذي أقيم في ساحة عامة، في زوق مكايل في سنة 1995، ورفعت صورته في «المكتبة الوطنية» في بيروت سنة 1974، وأطلق اسمه على شارع في منطقة الجمّيزة.
في الجزء السادس من المجموعة كتب جورج مصروعه عن هذا التمثال قائلاً: «نحت له الفنان حليم الحاج تمثالاً يقف المتأمل حياله واجماً لما فيه من ملامح بليغة التعبير عن تلك المواهب السخيّة، التي طالما حرّكت فينا أعمق المشاعر وهزّت القلوب والعقول. فأقبلنا عليها مستبشرين، وهلّلنا لها مرحّبين… نلتهب فرحاً وحماسة».
إعجاب بأبو شبكة
الجزء الأول من المجموعة الكاملة لأعمال انطون قازان يحمل عنوان «دراسات في الأدب والحياة» ويتضمن البحوث والمقالات والرسائل والخواطر التي كتبها.
في مطلع الكتاب، كتب شارل حلو تحت عنوان «الإسم الآخر لكل حب» يقول: «كان سيّداً من أسياد الفكر، وعالماً خبيراً في أسرار الكلمة، وأستاذاً ماهراً في الحجّة والقانون، لا بل هو الحجّة».
الى ان يقول: «مرّ كالوميض، سريعاً سريعاً، كما تقبّل العبقرية شفاه الشعراء، وترحل، تاركة سكرة الإبداع».
تناول المؤلف في هذا الكتاب، قضايا أدبية وتاريخية عديدة، وصولاً الى الحديث عن كبار من لبنان، وكان للشاعر الياس أبو شبكة حصة الأسد، ولا ضير في ذلك، فهو من عباقرة الشعر، وهو جاره في زوق مكايل، اذ ليس بين منزليهما سوى مرمى حجر!
من هنا، كتب جورج مصروعه أيضاً، وفي المكان نفسه، عن إعجاب قازان بأبو شبكة، قائلاً: «أعجب بالياس أبي شبكة إعجاباً كبيراً، فكتب فيه مقالات عديدة، وجعله موضوع أكثر من محاضرة، فأثبت بذلك أنه عرف بـ «شاعر غلواء» كما لم يعرفه أحد قبله. فأفاض في تحليل ملكته، وتحديد مناهل فكره، وطرافة موضوعاته، والظروف التي أحدثت تأثيراً في نفسه».
الأوزاعي والقومية اللبنانية
من البحوث المهمة التي وردت في هذا الجزء، بحث حول أثر الإمام الأوزاعي في تكوين القومية اللبنانية، وهو «الذي ولد سنة 707 وتوفي سنة 774، أي في الجيل الثامن، حيث كان لبنان في العهد العربي من أمويّ وعباسيّ. والذي تجدر الإشارة اليه أن تاريخ لبنان في تلك الحقبة، لا يزال مجهولاً جهلاً يكاد يكون تاماً».
ولفت انطون قازان في بحثه الى انه «من غريب المصادفات أن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي ولد في العام الذي توفي فيه قائد الموارنة وأول بطاركتهم مار يوحنا مارون. فكأنما القدر شاء ان يستمر العمل الوطني الأساسي الذي ألّف بين القلوب وجمع النفوس على يد جناحين أصيلين كانا الدعامتين أو العنصرين من العناصر الأولى التي ساعدت على تكوين القومية اللبنانية عندما أصبح لهذه الكلمة مفهومها الحالي».
وقفات مع الأعلام
الجزء الثاني من المجموعة الكاملة بعنوان: «في رحاب الفكر»، كتب مقدمته جورج غريّب، وفيه وقفات مع الأعلام، من رشيد أيوب الذي «في يده سبحة، وعلى فمه أغنية، ذلك الجوّاب. شدّ عوده ومشى الى العالم الجديد، وفي النفس من لبنان ألحان، وفي الخيال من الشرق متع!»، الى يوسف الخازن الذي «لم ينتظر ختام العمل ليدخل التاريخ، ولا أمهلته العبقرية، فإذا به أسطورة وهو حيّ، وحديث وهو السامع»، الى عبدالله العلايلي الذي هو «عرب اللسان، اذا جادل فحجته العالية، واذا استرسل في شرح، فأنت أمام بحر لا يدرك شاطئه»، الى ايليا أبو ماضي شاعر الفكر «كل قصيدة من قصائده تعبّر عن فكرة أساسية بنى عليها موضوع شعره»، الى مارون عبود «كاتب يشتاق اليه ولا يملّ»، الى فؤاد سليمان «دروب مشاها على ضوء قمره، فكان بعض حزن، وشجا طويل»، الى حسن كامل الصباح صاحب «العقل الجبّار»، الى حافظ جميل وهو «من أسياد الوصف في الشعر المعاصر»، وغيرهم…
قازان الصحافي
وما لفتني في هذه المجموعة، ان انطون قازان تعاطى مع مختلف فروع الكتابة، حتى انه تعاطى مع الصحافة أيضاً، ولو بشكل عابر، اذ انه في سنة 1955، أجرى حديثاً مع الأخطل الصغير نشره في مجلة «الرسالة»، ومن الأسئلة التي طرحها عليه – يومئذ – ما يأتي:
أي قصائدك الغزلية أحبّ اليك؟
وقف قليلاً وقال: لا أستطيع ان أميّز بين الواحدة والاخرى فكلها عزيزة عليّ، وكل منها تعيد اليّ ذكرى حبيبة الى نفسي.
هل انك «عشت» كل قصيدة من قصائدك الغزلية؟
أجاب مبتسماً: والله انك حشري.
وتضمن هذا الجزء أيضاً، كل ما كتبه في أدب المناسبات.
أبو شبكة والضيعة
الجزء الثالث بعنوان «بهجة المعرفة» وفيه: في عالم الكتب: قراءات ومراجعات – مقدمات الكتب – تقديم على المنابر.
كتب مقدمة الكتاب اميل كبا، قائلاً: «ان في انبساطه حضوراً على المساحة العربية والفكر والإنسان، كغمامة ذكرى لا تنقشع ودارة عجاب».
في هذا الكتاب يغوص انطون قازان داخل مؤلفات الكتّاب والشعراء، بحثاً عن الجمال والمعرفة، وما خفي من أسرار… في كتاب «الألحان» لأبي شبكة، يكشف المؤلف ان «حبه لضيعته وتعلقه بأرضها، فغريبان، حتى انه لم يكن ينام، ليلة واحدة، خارج الزّوق، بل يحتّم دوماً على نفسه العودة اليها، ولو في آخر الليل، ومهما كانت ظروفه، ليطلّ عليه الصباح وهو في الزّوق».
الى ان يقول: «أبو شبكة «في ألحانه»: شاعر لبناني أصيل غنّى فأطرب، وأحسّ فذاب، وصوّر فأبدع».
أسماء اخرى
… الى جبران في «العواصف»، معتبراً «اذا كان أجمل ما في جبران أنه غرابة، واشمل ما فيه محبة، فأبقى ما في جبران أنه عاصفة! ».
الى «حكاية عمر» لبولس سلامه الذي «أدرك ان السيرة أكثر من كشف ذاتي، انها أيضاً تنوّع وتنقّل وجودي وفكري معاً».
ويضيف انطون قازان: «لقد استطاع بولس سلامه ان يعيش مرة ثانية سالف أيامه، وان يوفق في جري القلم بين النبوغ والواقع… ».
الى كتاب «ضحكة الحرير» لراجي عشقوتي «كادح في مصنع الجمال»، الى سعيد عقل «ساحر الكلمة»، الى أمين نخلة الذي «يسأل عن عتيقه بقدر ما يسأل عن جديده»، الى خليل تقي الدين «من أدباء الطليعة والأصالة… »، الى توفيق وهبه الذي «عرك الحياة، وخبر الناس، وكان في كل أرض وطئها لبناني، وتعمّق في التاريخ صغيره وكبيره، وتنقّل بين خزائن المعرفة يلتهم مكنونها وما أغلق كتاباً، فإذا ثقافته حياة وإنسان وكتاب»، الى غيرها من الأسماء…
وجه المحامي
الجزء الرابع من المجموعة يتضمن أبحاث انطون قازان القانونية، كتب مقدمته فؤاد بطرس، قائلاً: «صورة انطون قازان المألوفة، كأديب ومفكرّ شهير زاخر بمواهب يجسّدها ذهن وقّاد، وخيال واسع، يعبّر عنهما بلغة مغزولة غزلاً، فصورته هذه لا تستنفد شخصيته بكلّيتها، إذ تكشف لنا هذه المجموعة عن وجه آخر له، يكمّلها ويتناغم معها. انه وجه المحامي المتمرّس، الضليع في علم القانون والتشريع… ».
وجه الشاعر
أما الكتاب الخامس فيتضمن مجموعته الشعرية، وهو بعنوان «شعر». وهنا احدى القصائد وهي بعنوان «عيون»:
وعين تسبح الأحلام فيها
على نغم تزايد في نواه
اذا انفتحت فدنيا من عيون
يغيب بها الخيال على مداه
وإن تغفو فليل ضمّ ليلاً
وعانق في الجمال أخ أخاه
فذاب على العناق ضحى غرير
عراه من الصبابة ما عراه.
الجزء السادس والأخير، يتناول انطون قازان «بأقلامهم» الذي كتب مقدمته المحامي شوقي قازان القائل: «قالوا فيه أشياء… وبقيت أشياء…».
اسكندر داغر