تحقيقرئيسي

تراث سوريا برسم التهريب والبيع… في لبنان

هي أقدم تجارة في العالم ومصنفة درجة ثالثة على لائحة الجرائم. وحكاية سرقة وتهريب الآثار من سوريا إلى لبنان ليست حديثة، لكن فداحة الدمار الذي لحق بآثارات سوريا حوّلها الى تجارة رائجة عبر الحدود. الأرقام تشير الى أن قيمة الآثار التي هربت الى خارج سوريا وصلت الى 2 مليار دولار، وليس في الأمر مبالغة متى عرفنا ما تحتضنه سوريا من مواقع أثرية. لكن الثابت أن مدينة حلب وحدها تعوم على قائمة تراثية وأثرية تحولت كلها الى ركام أو مضبوطات في صناديق هربت الى لبنان ودول عربية مجاورة. قصة محزنة. والتراث كما البشر اذا رحل لا يعود وان كانت هناك اتفاقيات دولية موقعة تلزم حكومات الدول الموقعة باعادة المضبوطات الأثرية، ومن ضمنها لبنان. لكن هل سمعتم بأن فسيفساء من القرون الوسطى عادت الى وطنها بموجب الاتفاقية الدولية؟! أو هل سمعتم أن تاجر آثار قرر أن يتخلى عن مهنته حفاظاً على آثار وتراث وطنه؟!

خبر توقيف مجموعة من مكتب شؤون المعلومات في المديرية العامة للأمن العام عنصرين من شبكة لتهريب الآثار اعترفا بقيامهما بتهريب آثار تمت سرقتها من مدافن في تدمر وكنائس في حمص، أعاد تعويم مسألة تهريب الآثار من سوريا إلى لبنان. لكن القصة قديمة جداً. ولا شيء تغير، أقله في وسائل التهريب والرؤوس المدبرة. اما المضبوطات فهي كناية عن آثار بيزنطية ورومانية وآرامية. لكن الخبر ليس الأول ولن يكون الأخير. فدائرة الآثار العامة في الأردن ضبطت بدورها وقبل أيام من عملية الأمن العام اللبناني، 3 عمليات تهريب لآثار سورية على الحدود الأردنية – السورية جرى تحويلها إلى دائرة الآثار للتأكد مما إذا كانت مزيفة أم حقيقية.

لبنان نقطة ارتكاز
ما يحصل من عمليات تهريب آثار سورية بات شبه طبيعي كنتيجة للحرب والدمار والفوضى الحاصلة هناك، لكنه من دون شك يشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية لاهاي الصادرة في العام 1954 والتي تفرض على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الإلتزام بعدم الإساءة الى الممتلكات الأثرية أثناء الحروب. ويشهد الخبراء ان لبنان كان يشكل نقطة ارتكاز للاتجار بالآثار في المنطقة. وعلى رغم تراجع موقعه، إلا أن الاثار المطمورة في هذا البلد المتوسطي لا تزال تثير اهتمام الاسواق المحلية والاقليمية والدولية. وتؤكد مسؤولة في المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة أن القوى الأمنية تضبط سنوياً أكثر من عشرين عملية تهريب للآثار داخل لبنان، من دون احتساب العمليات التي تحصل في المطار وعلى الحدود البرية. لكن المشكلة الأساسية ترتبط بالقوانين الرادعة التي تتميز بليونتها على عكس ما هي عليه في الاردن او مصر التي فرضت خلال المدة الأخيرة عقوبات صارمة تصل الى حد السجن مدة 15 عاماً. هذا عدا عن عمليات الإحتيال التي يمارسها التجار على القانون. ومنها مثلاً ما يجري في  مدينة صور التي تختزن اثار المدينة الفينيقية السابقة، حيث يعمد بعض التجار الى صنع فخاريات تشبه الفخاريات الاثرية ويضعونها في ماء البحر لمدة اسبوعين لايهام الزبائن بأنها اصلية.

السرقات تتخطى الارقام
حتى الساعة تشير التقارير الرسمية الى أن قيمة الآثار التي تم تهريبها من سوريا وصلت إلى 2 مليار دولار. وهناك أكثر من 12 متحفاً سورياً تعرضت للقصف والتكسير والسرقة. لكن عدد الآثار المسروقة بلغ 4000 قطعة بحسب وزير الثقافة السوري. خبر صحافي أم معلومات رسمية للتخفيف من فداحة الكارثة؟ ما يرويه النازحون أكبر وأفظع من الأرقام الرسمية، خصوصاً ما جرى في مدينة حلب من تدمير لآثار تعود إلى القرون الوسطى، إضافة إلى مواقع أثرية أخرى تم نهبها،  في سابقة لم تشهد أي من الدول التي عانت الحروب الأهلية مثيلاً لها. وقد يكون ذلك وراء اهتمام الخبراء والباحثين الدوليين في مسألة اندثار الآثار السورية ومنهم الباحثة في جامعة دورهام الإنكليزية ومؤلفة كتاب حول تأثير الحرب على الآثار السورية ايما كونليف، التي اعتبرت ان
جميع المواقع الأثرية في البلاد دون استثناء  تضررت، لا سيما في حلب. لكن ذلك لا يمثل الا جزءاً من الصورة القاتمة، مقارنة مع ما تحتضنه سوريا من مواقع عالمية للإرث الحضاري ومنها إلى جانب حلب، دمشق وبصرة وقلعة صلاح الدين وقلعة الحصن ومدينة تدمر الرومانية، اضافة الى العديد من القرى التي يزخر بها شمال البلاد بحسب منظمة الأونيسكو العالمية.

التهريب بين لبنان وسوريا منذ الستينيات
مدير عام مديرية الآثار بالإنابة بين العامين 1997 و2002 الدكتور شاكر غضبان واستاذ علم الآثار في جامعة ستراسبورغ والروح القدس – الكسليك حالياً، أكد أن سرقة الآثار قديمة في التاريخ. وكانت أصدرت منظمة الأونيسكو قوانين عدة على اعتبار ان تدمير التراث جريمة. ثم جاءت القوانين المحلية في لبنان ودول الجوار لحماية التراث والآثار على خلفية تفاقم ظاهرة
التهريب. وفي العودة إلى تاريخ عمليات تهريب الآثار بين لبنان وسوريا ذكر أنها بدأت تنتشر منذ الستينيات. وكان تجار الآثار في لبنان يعيشون من هذه التجارة والبعض منهم يقوم بتهريب الآثار من الأردن وتركيا ومصر والعراق. ولفت إلى ان القانون المعمول به آنذاك كان خاضعاً للوحدة الجمركية بين لبنان وسوريا. وكل قطع أثرية تدخل البلاد أو تصدر منها يفترض أن تخضع لرقابة السلطات كما كان الحال في فلسطين والعراق. أما بالنسبة إلى الحدود التركية – السورية فتركت مفتوحة. وكل شاحنة محملة بصناديق تحتوي على قطع أثرية تخضع للتفتيش والتدقيق على الحدود السورية، وتدخل البلد فتصير ملكاً لسلطاتها.
بعد فصل لبنان عن سوريا باتت القاعدة المعتمدة هي نفسها التي كانت تطبق بين تركيا وسوريا، ويؤكد غضبان أن الحكومات المتعاقبة لم تعترض يوماً على مسألة إدخال الآثار السورية إلى لبنان، ولو عن طريق التهريب عبر الحدود البرية أو البحرية أو جواً، على اعتبار أنها لا تشكل مضاربة على أي من الصناعات المحلية ولا تضر بالإقتصاد. وعلى العكس فهي تشكل ثروة، سواء في بقائها داخل الأراضي اللبنانية أو في حال تصديرها من خلال عملية جباية الرسوم.
كل هذه الأسباب «الموجبة» سمحت في تسهيل دخول الآثار السورية وسواها إلى لبنان. لكن أحياناً كانت تخرج المضبوطات عن حدها، يقول غضبان: «شهدت مرات عدة عملية دخول شاحنات محملة بقطع أثرية نادرة، منها مثلاً موزاييك كنيسة قديمة في سوريا. وكان يتم تقطيعه وتفتيته للإحتفاظ بالميدالية». هذا المشهد المحزن بحسب توصيف غضبان دفعه إلى التواصل مع أحد كبار المثقفين ورئيس الحفريات في وزارة الثقافة في سوريا آنذاك الدكتور أنطوان المقدسي. «يومها، طلبت منه ترتيب موعد مع وزيرة الثقافة نجاح العطار، ونجح في ذلك. وفي اللقاء أصررت على أن أنقل لها الصورة الكارثية التي تحل في آثار سوريا من جراء عمليات السرقة والتهريب إلى لبنان. وتمنيت عليها التشديد في الرقابة على الآثار السورية وضبطها عبر الحدود السورية لأن التهريب يتم على ايدي السوريين. ولا يوجد لبناني متورط في تهريب الآثار السورية إلى لبنان أو التنقيب عنها. وهو ليس بحاجة إلى ذلك طالما أنها تأتي إليه على طبق من التراث. لكن تبين أن الوزيرة العطار كانت عاجزة عن القيام بأية خطوة، لأن الرؤوس المدبرة لشبكات تهريب سرقة الآثار السورية تعود الى كبار الضباط في الجيش السوري».

 

 

قانوناً…
لا يخفي الدكتور غضبان تداعيات الإضطرابات الأمنية في سوريا والفلتان الحاصل في الدوائر الحكومية بحيث شجع البعض على القيام بعمليات التهريب المتنوعة، من بينها تهريب الآثار والكنوز الى خارج سوريا، وأعاد إحياء هذه التجارة الناشطة أصلاً في لبنان وتفعيلها. لكن، ما هي القوانين التي تحكم الآثار والحفاظ عليها في لبنان؟
يعتبر قانون الآثار الصادر في لبنان بتاريخ 7-11-1933، جميع الأشياء التي صنعتها يد الإنسان قبل العام 1700 ميلادية «آثاراً قديمة»، مهما كانت الحضارة التي تنتمي إليها المصنوعات. ونص القانون في مادته الخامسة على أن الآثار القديمة هي ملك الدولة ما لم يقم دليل على خلاف ذلك. كما دعا الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين يدعون ملكية آثار قديمة منقولة وغير منقولة إلى إثبات ملكيتهم لها. واعتبر ان الآثار القديمة المنقولة وغير المنقولة تسجل كآثار تاريخية، بموجب مرسوم يصدر بناء على اقتراح من وزير الثقافة وبعد أخذ رأي المدير العام للآثار، وكذلك  قبل القيام بأي عملية حفر وتنقيب عن الآثار.
يُخضع القانون، في جانب منه، تجارة الآثار في الداخل والخارج إلى رخصة صادرة عن المديرية العامة للآثار والتي ما زالت مفاعيلها مجمدة حتى الآن بموجب القرار الصادر في 27 شباط  (فبراير)1990 عن وزير السياحة الراحل عبدالله الراسي.

 

السارقون: مواطنون وعصابات

تنقسم عمليات سرقة الآثار إلى جزءين: الأول يشكل المواطنون البسطاء فيه الحلقة الرئيسية في عمليات التهريب، فيقومون بعمليات حفر عشوائية بدافع الحاجة والبطالة، وينهبون كل ما تطاوله أيديهم ويلحقون أضراراً فادحة بالمواقع الأثرية. وتعرض المكتشفات بأسعار رخيصة على التجار الذين يتولون بدورهم بيعها لكن بمبالغ ضخمة لشبكات معروفة في تجارة الآثار. أما الجزء الثاني فتتصدره عصابات تمتهن سرقة الآثار. وتستخدم في عملياتها خرائط وآلات معدنية قادرة على استشعار وجود الآثار عن بعد، وتعطي تقديراً لمسافة وجودها تحت سطح الأرض.
وفي لبنان، يتولى مكتب مكافحة السرقات الدولية التابع للشرطة القضائية مهمة مكافحة جرائم الآثار. وتشير مصادر أمنية مطلعة إلى أن غالبية عمليات ضبط الآثار المسروقة تكتشف عن طريق الصدفة أو عبر بلاغات مواطنين أو مخبرين، مشيراً إلى واقعة ضبط عشرات القطع الأثرية النادرة مؤخراً، التي كانت بحوزة شخص واحد في إحدى المناطق وكان يستعد لتهريبها إلى الخارج. ولفت إلى أن ضعف الإمكانات البشرية في الجهاز الأمني ينسحب على جهاز المديرية العامة للآثار إذ يوجد مراقب واحد فقط في كل محافظة، ويتولى ضبط التعديات على المواقع الأثرية.
نصل إلى الأحكام. فقانون الآثار في لبنان يحمي التهريب والمهربين ويمنحهم غطاء شرعياً. فالقطع الأثرية المنقولة المصنوعة بعد العام 1700 لا تخضع لمفاعيل قانون الآثار ولا تعتبر أثرية أو شبيهة بالآثار. هذا الواقع فتح الباب على مصراعيه لتهريب آلاف القطع الأثرية إلى الخارج تحت أنظار السلطات الشرعية، قدرت بحسب مصادر قضائية بنحو 75 ألف قطعة أثرية خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة. ويلحق بتلك الفئة من الآثار بعض الإنصاف لها في قانون الممتلكات الثقافية الصادر في 16-10-2008، والذي أعاد تصنيف المكتشفات الأثرية المصنوعة بعد العام 1700 ميلادية في خانة الممتلكات الثقافية. لكن قد يلجأ المتضررون إلى القضاء، للطعن بمعيار التأريخ. وهنا يستند القضاء في حسم توجهاته إلى تقارير خبراء آثار محلفين، ومنهم من يدعون حمل شهادة خبير آثار محلف مما يدخل القضية في محافل القضاء لسنوات عدة، وهناك الكثير منها وعلى سبيل المثال قضية تمثال الملك «سنطروق» أحد ملوك بلاد ما بين النهرين، الذي اكتشف في منزل سيدة لبنانية بارزة، ادعت شراءه قبل الاحتلال الأميركي للعراق في حين تؤكد وثائق الحكومة العراقية وجوده في المتحف الوطني إلى حين احتلال بغداد في العام 2003. كيف وصل إلى منزل هذه السيدة؟ الجواب لا يزال لغزاً.
إشارة إلى أن اتفاقية الأونيسكو التي وقع عليها لبنان في العام 1970 تلزم الدول الموقعة باتخاذ كل الإجراءات لمنع متاحفها من الحصول على قطع أثرية وفنيّة بطرق غير شرعية كما تجبرها في جانب آخر على إعادة القطع الأثرية والفنية إلى بلادها الأصلية عند اكتشافها. وعليه فإن القطع التي تم ضبطها في لبنان في الأيام الأخيرة يفترض أن تعاد بواسطة مديرية الآثار إلى سوريا وتسلم إلى مديرية الاثار السورية، هذا في المبدأ والقانون. لكن على الأرض حدّث ومن دون حرج عن عمليات بيع للمضبوطات أو إعادة تهريبها بهدف الإفادة المادية منها في الخارج. ولفت الدكتور غضبان إلى أن الدول الموقعة على اتفاقية الأونيسكو تخضع للقوانين عينها، أما سواها فيصار إما إلى الإحتفاظ بالآثار المسروقة أو تتم إعادة تهريبها أو توضيبها في المتاحف الوطنية.
ورد في التقرير الذي رفعه المبعوث الأممي الى سوريا الأخضر الإبراهيمي في أيلول (سبتمبر) الماضي: «إن جوامع وكنائس وأسواقاً قديمة ومهمة» في حمص تحولت إلى «أطلال» بما فيها كاتدرائية أم الزنار التي يعود تاريخها الى فجر المسيحية في سنة 59 ميلادية. وقد تكون حجارة هذه المواقع وأثرياتها من أبرز المضبوطات التي تم كشفها في لبنان. لكنها حتماً لا تشكل إلا الجزء القليل مما هو حاصل وفقاً لتقارير سرقة وتهريب آثار من سوريا إلى لبنان، علماً بأن وزيرة الثقافة السورية لبانة مشوح لا تزال تصر على التأكيد بأن مقتنيات المتاحف السورية موضوعة في مكان آمن، وما يتم تداوله عن سرقة الآثار السورية، إنما يهدف إلى التأثير سلباً على موقع سوريا في التصنيف العالمي. لكن ماذا عن تدمير المواقع الأثرية في حلب وحمص وتدمر؟ هل تصنفها وزيرة الثقافة مثلاً في خانة المباني العادية؟!.

جومانا نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق