آدب

أدب الريف هو الطريق نحو العالمية

بمناسبة مرور 21 سنة على غيابه، عقدت «دار نلسن للنشر» ندوة فكرية تكريمية بعنوان «تحية الى الروائي الراحل يوسف حبشي الأشقر» وذلك في «دار الندوة» في بيروت. ويوسف حبشي الأشقر هو ابن بيت شباب، البلدة التي أعطت الكثير، وفي مختلف ميادين الحياة، وخصوصاً في ميدان الكلمة التي هي محور الوجود. ومنها استوحى معظم أحداث رواياته وقصصه القصيرة التي تعبّر عن ثقافة ومسيرة كل شعب من الشعوب. وبعيداً عن أدب القصة، كتب يوسف حبشي الأشقر، في بداياته، الشعر الحرّ، وكتب المقالة، وكتب النقد الأدبي… وبعيداً عن أدب الريف، وهو الطريق نحو العالمية، كتب عن المدينة أيضاً، التي عاش فيها مرحلة من الزمن، وتناول مختلف الموضوعات كما عالج مختلف القضايا والمشكلات، التي طرأت على هذا الوطن وعلى شعبه.

افتتح الندوة، مدير «دار نلسن للنشر» الكاتب سليمان بختي، معتبراً ان يوسف حبشي الأشقر (1929 – 1992)، وبعد 21 سنة على الغياب الذي لم يزده إلا حضوراً وتجذراً. ومنذ كتاب «طعم الرماد» (1952) الصادر عن «المكشوف» حتى «الظل والصدى» (1989) الصادر عن «دار النهار للنشر» أدرك الأشقر ان الرماد سيبقى وطعم المرارة سيمكث والظل سيبقى والصدى سيتناثر وكل ما عداه سيزول فلا عتب ولا لوم ولا عزاء. يستحق يوسف حبشي الأشقر التحية مثلما يستحق إعادة القراءة والإعتبار ممّا حاول قوله دائماً – ونحن في عين العاصفة – لنعتبر من موقفه ضد الحرب ومرارتها. وقف ضد الطرفين في الحرب لأن «كلاهما يقتل، كلاهما يسرق، كلاهما يكذب، كلاهما يتعصب». والفارس النبيل لا يسأل في مطامحه. ولكن أحدهم سأله: كيف صوّرت أمراء الحرب على هذه الصورة، وكيف تجرؤ أن تعيش بينهم؟ فأجاب: «من حسن الحظ أو من سوئه أنهم لا يقرأون».
وخلص سليمان بختي الى القول، نتذكر يوسف حبشي الأشقر ونتألم لأنه بعد 21 سنة على غيابه لم يكرّم على نطاق واسع…

صوت الكاتب نفسه
الناقدة الدكتورة يمنى العيد، وجدت في شخصية اسكندر، بطل رواية «الظل والصدى»، لا مجرد صورة وانعكاس لكاتب الرواية، كما رأى بعض دارسي روايته هذه، بل وجدت صوتاً متفرداً هو صوت الرواية وهو – في الآن نفسه – صوت الكاتب الضمني يوسف حبشي الأشقر، المواطن اللبناني الرائي المتفرد برؤيته، والمعاين بعمق لإشكالية الحرب على أرض لبنان وبين اللبنانيين.

رفض الحرب
ولفتت يمنى العيد، الى ان الأشقر رفض الحرب من موقع المعرفة بالواقع والتاريخ. الواقع الذي يعني، في نظره، الأسباب والدوافع. والتاريخ الذي يعني الجذور. هكذا، ومن موقع هذه المعرفة، رسم، في ما رواه، دروب الخلاص التي هي داخل الإنسان وعلى حدود تجذره في معاني الحب والإيمان بالهوية والتشبّث بالأرض وعدم الهجرة… فالتاريخ هو تاريخ مكان، والمكان هو مكان لتاريخ، وهما معاً هوية وعقيدة، عقيدة وجود وتجذّر في هذا الوجود.

الخطيئة والغفران
الأكاديمي والباحث الدكتور لطيف زيتوني، اعتبر ان الحديث عن يوسف حبشي الأشقر حديث عن روائي كبير، بل عن اب الرواية اللبنانية. لكن هذا الأب لم يجد الى اليوم مكانته المستحقة لا في الإعلام الثقافي، ولا في الدراسات الأكاديمية.
وتناول في مداخلته رواية واحدة، هي رواية «أربعة أفراس حمر» التي صدرت في طبعة وحيدة سنة 1964، والتي صار الوصول اليها صعباً وربما متعذراً.
وتوقف الدكتور زيتوني عند مسألة واحدة هي «الخطيئة والغفران». وهي مسألة عصرية بإمتياز بعدما تجاوزت الدين الى الفلسفة وعلم السياسة. وقد يكون الأشقر من المبادرين الى طرح هذه المسألة في الرواية العربية. وقد يكون من المبكرين في طرحها بمفهوم جديد في الرواية العالمية. فقد ابتعد الأشقر عن مفهوم العقاب الذاتي الذي تكررت صوره في التراث العالمي بتأثير الأدب الروسي، والذي تجلى بأوضح صوره في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب». ونقل الخطيئة والغفران من المعجم الديني الى المعجم الوجودي.

بين الغفران والنسيان
ولفت الدكتور لطيف زيتوني، في هذا المجال، الى ان الروائي دريدا يلتقي بكثير من طروحات الأشقر التي عبّر عنها قبله بأربع وأربعين سنة. فالأشقر ميّز بين الغفران والنسيان، حين وعد «يوسف»، «مها»، بأن ينسى دون أن يغفر، لأن نسيان الإساءة لا يلغي إمكانية تذكرها، بينما الغفران محو نهائي لها. كذلك اعتبر الأشقر الغفران عطاء مجانياً.
وخلص الى القول، فإذا كان تبدل الأجيال هو السبيل البطيء الموصل الى الغفران، فالأشقر على حق حين جعل البشر عاجزين عن الغفران، واعتبر ان أقصى ما يمكن تمنيه هو النسيان، لا بفعل الإرادة بل بفعل مرور الزمن.

أنطون الفرّان
الكاتب محمود شريح تحدث عن يوسف حبشي الأشقر: القاص الرائي. مستهلاً كلامه بالقول ، من ان السرد كان مورد حياته لكن منه لم يرتزق.كان حلمه عبارة بسيطة في غور نفساني فالتقطت عيناه الحائرتان تضاريس حلمه، فالكتابة عنده حسّ وجودي. في قصته «أنطون» من مجموعته «خطيب الضيعة» وهو في الخامسة والعشرين، فلسفة ونبوءة. في الأناجيل «خطيب الضيعة لا يشترى ولا يباع»، وعليه فمدار القصّ هنا رأس المال.
وبأسلوبه الجميل، روى محمود شريح، قصة أنطون الذي عرف بأنطون الفرّان، فالفرن أمه والفرن أبوه…

كلمة وجدانية
مايا يوسف حبشي الأشقر، ألقت كلمة وجدانية نابعة من القلب، استحضرت فيها والدها، وممّا قالته: كلماتك زرعت في قلوبنا نزاهة فرسان «خطيب الضيعة» وفي دمنا صلابة «راحيل» وعنادها! علّمتنا ان «الجذور تنبت في السماء» بلى، إذا عرفنا ان نحب وأن «وجوه الأرض القديمة» أيقونة لا يقوى عليها الموت. كلماتك أضرمت إنتماءنا الى كفرملات /بيت – شباب وناشدتنا بأن نكون ظلاً لمن نحب من دون أن نكون صداه! كلماتك مشتاقة الى خالقها يا أبي! تنام في قعر البركة منذ رحيلك، تنتظرك تدمّر جدار الصمت لتخرج من سباتها، تحنّ الى أصابعك تقولبها وتجسّدها وتنفخ فيها الحياة. إنتقت البركة تحت صنوبرتك مقراً لها لأن الصنوبرة توأمك، زرعها جدي يوم ولدت!

سحابة ممطرة وخصبة
في مداخلته، تحدث الشاعر شوقي أبي شقرا، معتبراً أن يوسف له طبعه وله قلمه وله الروح التي تعصف آناً وتموج آناً وترحل آناً وتؤوب أحياناً شتى. انها الروح القصصية التي لازمته منذ شبابه وكان في البدء يداعب الكلمة في منحى آخر وفي اتجاه مختلف وفي مدى كان قصيراً. لأنه بعد النغمة تلك، انصرف الى الناحية الروائية، الى الناحية المعمارية التالية. إذ مثلما كانت له الرحلة الى القصة والى الرواية معاً، عمد الى الترتيب والى أن يجعل الكلمة تذهب كما يريدها، أن تذوب إخلاصاً لفكرته، وللمعاني التي يرغب في أن يبثها، أن يصوغها أدباً لبنانياً.
ويرى شوقي أبي شقرا، أن يوسف هو سحابة ممطرة وخصبة تنفع الأرض وتنفع الإرث اللبناني والتراث اللبناني المنفتح على البلاد جمعاء وعلى العالم العربي ما دام ينطق النطق الإنساني. وما دام يبرع في الأشخاص الذين صوّرهم وأنزلهم في مقاعد من الحب والقلق، وعقد لهم صلات تنطلق من الضيعة، من بيت شباب الى الأقاصي، الى كل قارىء وكل باحث عن الوجود الكامل السعادة، الى كل مؤرخ لما يحصل على كل صعيد، على كل كتابة في هذا المجال الحي والصاخب معاً.

بداية الطريق
أما المداخلة الأخيرة، فكانت للشاعر والناقد والصحافي لويس الحايك، لافتاً الى أن يوسف حبشي الأشقر كتب في النقد الأدبي قبل نشر رواياته وبعد أن أثبت حضوره بقصص القرية التي أشاد بها في ما بعد الروائي نجيب محفوظ في جريدة «الأهرام». ظهرت مقالاته الأولى في مجلة «الأجيال»، ومن ثم، في مجلة «الحكمة» مع كتابات نقدية ومع رفاق تميزوا جميعهم بالعقلانية وسلاطة اللسان، والحديث عنهم لا مجال له في هذه المداخلة. أما عن شعره وقد لمّح إليه محمد دكروب في مجلة «الطريق» سنة 2003، وقال تعليقاً على رواية «المظلة والملك وهاجس الموت» ان أسلوبها وأقاصيصها مبنية بعناية وتركيبها البنائي مكسّر بعناية أيضاً. وهذا الأسلوب يختلف بين السرد القصصي وما يشبه التأملات التي تتخذ روحية الشعر وطابعه ومناخاته.

عائد الى الشعر
وقرأ لويس الحايك فقرة قصيرة مجتزأة من مقالة طويلة مضمومة الى الجزء الثاني من كتابه النقدي الجديد، وهي محاورات حول الأرض القديمة والوجوه القديمة والأمطار القديمة، يقول فيها: يوسف الذي ولد شاعراً وكتب بعضاً من شعره نثراً، أي حراً طليقاً، في بداياته، ثم أهمله بمشورة من صديقه فؤاد كنعان، أو لقناعته بأن كتابة الشعر بحاجة الى تجربة حياتية طويلة، عاد اليه من جديد بالعبثية وهواجس الموت تحت مظلة الحرب.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق